كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما ابتدىء الاستدلال بتقديم جملة {أأنتم تخلقونه} زيادة في إبطال شبهتهم إذ قاسوا الأحوال المغيبة على المشاهدة في قلوبهم لا نُعاد بعد أن كنا ترابًا وعظامًا، وكان حقهم أن يقيسوا على تخلق الجنين من مبدأ ماء النطفة فيقولوا: لا تتخلق من النطفة الميتة أجسام حية كما قالوا: لا تصير العظام البالية ذواتًا حيّة، وإلا فإنهم لم يدّعوا قط أنهم خالقون، فكان قوله: {أأنتم تخلقونه} تمهيدًا للاستدلال على أن الله هو خالق الأجنة بقدرته، وأن تلك القدرة لا تقصر عن الخلق الثاني عند البعث.
وفعل الرؤية في {أرأيتم} من باب (ظن) لأنه ليس رؤية عين.
وقال الرضيّ: هو في مثله منقول من رأيت، بمعنى أبصرت أو عرفتَ، كأنه قيل: أأبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها، أخبرني عنها، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء. اهـ، أي لأن أصل فعل الرؤية من أفعال الجوارح لا من أفعال العقل.
و {ما تمنون} مفعول أول لفعل {أفرأيتم}.
وفي تعدية فعل {أرأيتم} إليه إجمال إذ مورد فعل العلم على حال من أحوال ما تمنون، ففعل (رأيتم) غير وارد على نفس {ما تمنون}.
فكانت جملة {أأنتم تخلقونه} بيانًا لجملة {أفرأيتم ما تمنون}، وأعيد حرف الاستفهام ليطابِق البيانُ مبيَّنَه.
وبهذا الاستفهام صار فعل {أرأيتم} معلقًا عن العمل في مفعول ثان لوجود موجب التعليق وهو الاستفهام.
قال الرضيّ: إذ صُدر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام فالأوْلى أن لا يعلق فعل القلب عن المفعول الأول نحو: علمْت زيدًا أي من هو. اهـ.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في {أأنتم تخلقونه} لإِفادة التقويّ لأنهم لما نُزلوا منزلة من يزعم ذلك كما علمتَ صيغت جملة نفيه بصيغة دالة على زعمهم تمكن التصرف في تكوين النسل.
وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله تعالى معنى قصر الخلق على الله تعالى.
و {أم} متصلة معادلة الهمزة، وما بعدها معطوف لأن الغالب أن لا يذكر له خبر اكتفاء بدلالة خبر المعطوف عليه على الخبر المحذوف، وههنا أعيد الخبر في قوله: {أم نحن الخالقون} زيادة في تقرير إسناد الخلق إلى الله في المعنى وللإِيفاء بالفاصلة وامتداد نفس الوقف، ويجوز أن نجعل {أم} منقطعة بمعنى (بل) لأن الاستفهام ليس بحقيقي فليس من غرضه طلب تعيين الفاعل ويكون الكلام قد تم عند قوله: {تخلقونه}.
والمعنى: أتظنون أنفسكم خالقين النسمَة مما تمنون.
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت}.
استدلال بإماتة الأحياء على أنها مقدورة لله تعالى ضرورة أنهم موقنون بها ومشاهدونها ووادُّون دفعها أو تأخيرها، فإن الذي قدر على خلق الموت بعد الحياة قادر على الإِحياء بعد الموت إذ القدرة على حصول شيء تقتضي القدرة على ضده فلا جرم أن القادر على خلق حيّ مما ليس فيه حياة وعلى إماتته بعد الحياة قدير على التصرف في حالتي إحيائه وإماتته، وما الإحياء بعد الإِماتة إلا حالة من تينك الحقيقتين، فوضح دليل إمكان البعث، وهذا مثل قوله تعالى: {وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإِنسان لكفور} [الحج: 66].
هذا أصل المفاد من قوله: {نحن قدرنا بينكم الموت} ثم هو مع ذلك تنبيه على أن الموت جعله الله طورًا من أطوار الإنسان لحكمة الانتقال به إلى الحياة الأبدية بعد إعداده لها بما تهيئُه له أسباب الكمال المؤهلة لتلك الحياة لتتم المناسبة بين ذلك العالم وبين عامريه.
وقد مضى الكلام على ذلك عند تفسير قوله تعالى: {أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون} في سورة المؤمنين (115).
فهذا وجه التعبير بـ {قدرنا بينكم الموت} دون: نحن نميتكم، أي أن الموت مجعول على تقدير معلوم مراد، مع ما في مادة {قدرنا} من التذكير بالعلم والقدرة والإرادة لتتوجه أنظار العقول إلى ما في طيّ ذلك من دقائق وهي كثيرة، وخاصة في تقدير موت الإنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إنْ أخذ لها أسبابها.
وفي كلمة {بينكم} معنى آخر، وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداولًا وتناوبًا، فلا يفلت واحد منهم ولا يتعين لحلوله صنف ولا عُمُرٌ فآذن ظرف (بين) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحد متى يصيبه قسطه منه، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه، أو متى يطير إليه قِطُّه ولكنه يوقن بأنه نائله لا محاله.
وبهذا كان في قوله: {بينكم الموت} استعارة مكنية إذ شبه الموت بمقسوم ورمز إلى المشبه به بكلمة {بينكم} الشائع استعمالها في القسمة، قال تعالى: {أن الماء قسمة بينهم} [القمر: 28].
وفي هذه الاستعارة كناية عن كون الموت فائدة ومصلحة للناس إما في الدنيا لئلا تضيق بهم الأرض والأرزاق وإما في الآخرة فللجزاء الوفاق.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوّي الحكم وتحقيقه، والتحقيق راجع إلى ما اشتمل عليه التركيب من فعل {قدرنا} وظرف {بينكم} في دلالتهما على ما في خلق الموت من الحكمة التي أشرنا إليها.
وقرأ الجمهور {قدّرنا} بتشديد الدال.
وقرأه ابن كثير بالتخفيف وهما بمعنى واحد، فالتشديد مصدره التقدير، والتخفيف مصدره القَدر.
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أمثالكم وَنُنشِئَكُمْ في مَا لا تَعْلَمُونَ}.
هذا نتيجة لما سبق من الاستدلال على أن الله قادر على الإِحياء بعد الموت فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع ويترك عطفه فعدل عن الأمرين، وعطف بالواو عطف الجمل فيكون جملة مستقلة مقصودًا لذاته لأن مضمونه يفيد النتيجة، ويفيد تعليمًا اعتقاديًا، فيحصل الإعلام به تصريحًا وتعريضًا، فالصريح منه التذكير بتمام قدرة الله تعالى وأنه لا يغلبه غالب ولا تضيق قدرته عن شيء، وأنه يبدلهم خلقًا آخر في البعث مماثلًا لخلقهم في الدنيا، ويفيد تعريضًا بالتهديد باستئصالهم وتعويضهم بأمة أخرى كقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأتتِ بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز} [إبراهيم: 19، 20] ولو جيء بالفاء لضاقت دلالة الكلام عن المعنيين الآخرين.
والسبق: مجاز من الغلبة والتعجيز لأن السبق يستلزم ان السابق غالب للمسبوق، فالمعنى: وما نحن بمغلوبين، قال الفقعسي مُرّةُ بن عداء:
كأنّك لم تُسبق من الدهر مَرة ** إذا أنتَ أدركتَ الذي كنت تطلُب

ويتعلق {على أن نبدل أمثالكم} بـ {مسبوقين} لأنه يقال: غلبه على كذا، إذا حال بينه وبين نواله، وأصله: غلبه على كذا، أي تمكن من كذا دونه قال تعالى: {والله غالب على أمره} [يوسف: 21].
ويكون الوقف على قوله: {أمثالكم}.
ويجوز أن يكون {على أن نبدل أمثالكم} في موضع الحال من ضمير {قدرنا} [الواقعة: 60]، أي قدرنا الموت على أن نحييكم فيما بعدُ إدماجًا لإِبطال قولهم: {أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أإنا لمبعوثون} [الواقعة: 47] فتكون (على) بمعنى (مع) وتكون حالًا مقدرة، وهذا كقول الواعظ: (على شرط النقض رُفع البنيان، وعلى شرط الخروج دخلتْ الأرواح للأبدان) ويكون متعلق {مسبوقين} محذوفًا دالًا عليه المقام، أي ما نحن بمغلوبين فيما قدّرناه من خلقكم وإماتتكم، ويجعل الوقف على {مسبوقين}.
ويفيد قوله: {نحن قدرنا بينكم الموت} إلخ وراء ذلك عبرة بحال الموت بعد الحياة فإن في تقلب ذيْنك الحالين عبرة وتدبرًا في عظيم قدرة الله وتصرفه فيكون من هذه الجهة وزانُه وزان قوله الآتي: {لو نشاء لجعلناه حطامًا} [الواقعة: 65] وقوله: {لو نشاء جعلناه أجاجًا} [الواقعة: 70] وقوله: {نحن جعلناها تذكرة ومتاعًا للمقوين} [الواقعة: 73].
ومعنى: {أن نبدل أمثالكم}: نبدل بكم أمثالكم، أي نجعل أمثالكم بدلًا.
وفعل (بدّل) ينصب مفعولًا واحدًا ويتعدى إلى ما هو في معنى المفعول الثاني بحرف الباء، وهو الغالب أو بـ (مِن) البدلية فإن مفعول (بدّل) صالح لأن يكون مُبدَلًا ومبدَلا منه، وقد تقدم في سورة البقرة (61) قوله تعالى: {أتستبدلون الذي هو أدنى} وفي سورة النساء (2) عند قوله: {ولا تَتَبَدّلوا الخبيث بالطّيب}، فالتقدير هنا: على أن نبدّل منكم أمثالكم، فحذف، متعلق {نبدل} وأبقي المفعول لأن المجرور أولى بالحذف.
والأمثال: جمع مِثْل بكسر الميم وسكون المثلثة وهو النظير، أي نخلق ذوات مماثلة لذواتكم التي كانت في الدنيا ونودع فيها أرواحكم.
وهذا يؤذن بأن الإِعادة عن عدم لا عن تفريق.
وقد تردد في تعيين ذلك علماء السنة والكلام.
ويجوز أن يفيد معنى التهديد بالاستئصال، أي لو شئنا استئصالكم لما أعجزتمونا فيكون إدماجًا للتهديد في أثناء الاستدلال ويكون من باب قوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} [إبراهيم: 19].
{وننشئكم} عطف على {نبدل}، أي ما نحن بمغلوبين على إنشائكم.
وهذا العطف يحتمل أن يكون عطف مغاير بالذات فيكون إنشاؤهم شيئًا آخر غير تبديل أمثالهم، أي نحن قادرون على الأمرين جميعًا، فتبديل أمثالهم خلق أجساد أخرى تودع فيها الأرواح، وأما إنشاؤهم فهو نفخ الأرواح في الأجساد الميتة الكاملة وفي الأجساد البالية بعد إعادتها بجمع متفرقها أو بإنشاء أمثالها من ذواتها مثل: عَجب الذنب، وهذا إبطال لاستبعادهم البعث بعد استقرار صور شبهتهم الباعثة على إنكار البعث.
ويحتمل أن يكون عطف مغاير بالوصف بأن يراد من قوله: {وننشئكم في ما لا تعلمون} الإِشارة إلى كيفية التبديل إشارة على وجه الإِبهام.
وعطف بالواو دون الفاء لأنه بمفرده تصوير لقدرة الله تعالى وحكمته بعدما أفاده قوله: {أن نبدل أمثالكم} من إثبات أن الله قادر على البعث.
و {ما} من قوله: {في ما لا تعلمون} صادقة على الكيفية، أو الهيئة التي يتكيّف بها الإنشاء، أي في كيفية لا تعلمونها إذ لم تحيطوا علمًا بخفايا الخلقة.
وهذا الإجمال جامع لجميع الصور التي يفرضها الإمكان في بعث الأجساد لإيداع الأرواح.
والظرفية المستفادة من {في} ظرفية مجازية معناها قوة الملابسة الشبيهة بإحاطة الظرف بالمظروف كقوله: {فعدلك في أي صورة ما شاء ركّبك} [الانفطار: 7، 8].
ومعنى {لا تعلمون}: أنهم لا يعلمون تفاصيل تلك الأحوال.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)}.
أعقب دليل إمكان البعث المستند للتنبيه على صلاحية القدرة الإِلهية لذلك ولسد منافذ الشبهة بدليل من قياس التمثيل، وهو تشبيه النشأة الثانية بالنشأة الأولى المعلومة عندهم بالضرورة، فنبهوا ليقيسوا عليها النشأة الثانية في أنها إنشاء من أثر قدرة الله وعلمه، وفي أنهم لا يحيطون علمًا بدقائق حصولها.
فالعلم المنفي في قوله: {فيما لا تعلمون} [الواقعة: 61]، هو العلم التفصيلي، والعلم المثبت في قوله: {ولقد علمتم النشأة الأولى} هو العلم الإجمالي، والإجمالي كاففٍ في الدلالة على التفصيلي إذ لا أثر للتفصيل في الاعتقاد.
وفي المقابلة بين قوله: {في ما لا تعلمون} [الواقعة: 61] بقوله: {ولقد علمتم} محسّن الطباق.
ولما كان علمهم بالنشأة الأولى كافيًا لهم في إبطال إحالتهم النشأة الثانية رتب عليه من التوبيخ ما لم يرتب مثله على قوله: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون} [الواقعة: 60، 61] فقال: {فلولا تذكرون}، أي هلا تذكرتم بذلك فأمسكتم عن الجحد، وهذا تجهيل لهم في تركهم قياس الأشباه على أشباهها، ومثله قوله آنفًا: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون} [الواقعة: 57].